1-- تجتاح الحرب،التي تقترب من نهاية عامها السادس، سورية من أقصاها الشرقي إلى أقصاها الغربي ومن شمالها إلى جنوبها. وهي لم تعمل على تفكيكها وحسب، بل أدت إلى تدمير الكثير من مدنها وقراها واحتلال مناطق عديدة منها من الطامعين من أطراف وجهات مختلفة.
في آذار2011 بدأت في البلاد انتفاضة شعبية طمحت لتحقيق الحرية والكرامة والعدالة، وأعلنت عن تمسكها بوحدة سورية وإصرارها على وحدة شعبها. إن تدخل قوى إقليمية قريبة وبعيدة وقوى دولية ذات سطوة وقدرة كبيرتين، في هذا الصراع الداخلي، حوله من تحرك داخلي سلمي، وطني الطابع وسوري الأهداف، إلى حرب بين أطراف هذه القوى، ساحتها الأرض السورية وطعامها دم ولحم السوريين، وهدفها السيطرة على البلد ذي الأهمية الاستراتيجية من أجل هدف أكبر هو اقتسام وإعادة اقتسام مناطق النفوذ في المشرق العربي والشرق الأوسط وإعادة صياغتهما بما يناسب مصالح الأطراف المنتصرة.
الحصيلة الأولية للحرب خلال هذه الأعوام ما يقارب أو يجاوز نصف المليون من القتلى وما لا يعرف عدده من المعاقين والعجزة والجرحى والمرضى النفسيين. في سياقها اضطرت الملايين للهجرة إلى دول الجوار وإلى العديد من دول العالم، ونزحت ملايين أخرى هربا من موت مجاني إلى مناطق أكثر أمنا في البلاد.
لقد تفككت سورية، وتأسست إمارات حرب في مناطق عديدة منها سنّت "قوانين" وأعرافا أخرى، ومارست الطغيان على الناس الذين ثاروا على العسف الذي كانوا يعانونه. لقد تحولت مئات ألوف البيوت إلى أنقاض أتلفت محتوياتها أو نهبت، وقطّعت أوصال البلاد، وتعطل العمل في الصناعة والزراعة والإنتاج عموما وعمت البطالة وتخربت طرق المواصلات والسكك الحديدية وشبكات الكهرباء وشبكات المياه وشبكات الصرف الصحي، وشوارع المدن والقرى، ودمّر الكثير من المدارس والمشافي وتعطل التعليم لملايين الأطفال والشباب. .
أدّت هذه الأوضاع لتغييرات بعيدة الأثر بين الناس وإلى تفكك الروابط الطبيعية بينهم. لقد أفرغت مدن وقرى من سكانها وتناثر السوريون تحت كل كوكب، وقامت حدود الدول وحواجزها بينهم، وإن بقي مستوى من التضامن والوحدة المعنوية بينهم ، لعبا دورا في حض الناس على الصبر على هذه المحن. باختصار، أتلفت منجزات صنعتها أجيال من هذا الشعب وأعيدت البلاد سنوات كثيرة إلى الوراء.هذه الحالة المأساوية مستمرة وليس في الأفق المنظور ما يشير إلى قرب نهايتها.
2--هذه الأوضاع يجب أن تزول. من أجل ذلك ينبغي وضع حدّ لهذه الحرب! ليس لخلاص السوريين فقط، بل أيضا لأنها تهدد بالانتشار إلى بلدان أخرى وإلى ما ينجم عن ذلك من أخطار على السلم في منطقة واسعة كمنطقة الشرق الأوسط والعالم. والواقع أنها أخذت بالانتشار إلى الجوار. عدا عن أن الحرب قائمة الآن في ليبيا وجنوب السودان والصومال واليمن ومصر وأفغانستان والعراق وقد تلحق تركيا بالقافلة. إنهاء الحرب في سورية شرط لابد منه لفتح الطريق أمام شعب هذه البلاد لاستعادة قدرته على تقرير مصيره ومستقبله ولتحقيق السلم الشامل على الأرض السورية كلها، وللمساعدة على وقف انتشار تيار الحرب إلى مناطق جديدة. لكنّ المهمة عسيرة، لأن القوى المرتبطة مصالحها باستمرار هذه الحرب، وحتى بتوسيع ساحتها لتشمل أقطارا أخرى إضافة لسورية والعراق، لا تزال قوية وفاعلة ومواظبة على نهجها. لقد اتّضح خلال ما انقضى من السنوات أن الهدن المؤقتة وحالات وقف القتال ، إنما كانت فترات استراحة بين المتحاربين، لم يكن هدفها إلا اغتنام الفرص للتزود بالأسلحة والرجال لمعاودة القتال.
السلم الحقيقي هو نفي الحرب، هو الخلاص منها بإلغاء الأسباب والعوامل التي أثارتها والتي تعمل على استمرارها. وهذا يعني قبل أيّ شيء آخر، اعتراف الدول الكبرى والدول الإقليمية المشاركة في الحرب أو الممولة والمسلحة لأطرافها، اعترافا حقيقيا، وليس لفظيا كما هو الحال حتى الآن، بحق هذه البلاد وحق شعبها في السلم والحرية ووحدة الأرض والسيادة والاستقلال، وترجمة هذا الاعتراف بإعلان الاستعداد لإخراج القوات العسكرية التابعة لها والتوقف عن إنشاء وتوسيع القواعد العسكرية وتصفية ما هو موجود منها، والامتناع عن تسليح وتمويل المقاتلين والامتناع عن التدخل في الشؤون الداخلية السورية.
3-- لم تحدث الحرب كنتيجة للانتفاضة أو التحرك الشعبي، كما يريد بعضهم تصوير الأمور. على أن الأطراف أصحاب المصلحة في إثارة الحرب، عرفت كيف تستغل الفرصة. والفرق كبير بين أسباب التحرك الشعبي وبين دوافع الآخرين لإشعال الحرب على أرض غير أرضهم وبدماء غير دماء أبناء بلدانهم. الانتفاضة كانت تحرك الشعب ضد نهج النظام الاستبدادي وردّه على سياسة الإفقار المتصاعد للطبقات والفئات الشعبية. أما أسباب الحرب وعوامل استمرارها، فهي الأطماع الجيوستراتيجية والسياسية والاقتصادية للدول الإمبريالية والصراع على المصالح والنفوذ بين الدول الإقليمية. سوء تقدير الأوضاع وغياب الحكمة أفسحا المجال للقوى المعادية للشعب والبلاد لاستغلال الظروف الناشئة للدفع نحو حرب، تضاءلت خلالها تدريجيا حتى انعدمت القدرة الداخلية للسيطرة على مسار الأوضاع، ناهيك عن مآلاتها ونتائجها. وعندما أخذ بعض النتائج الجانبية للحرب يثقل على بعض الأطراف الدولية والإقليمية، وأصبح مثيرا للقلق تدفق اللاجئين على أوربا من سورية ومن بلدان أخرى كثيرة ضحايا النهب الإمبريالي والحروب الإمبريالية، بدأ البحث عن حلول مؤقتة تجنب المتضررين الآثار غير المرغوبة، وفي الوقت نفسه، تترك الحرب تتابع مسارها، طالما لم تتحقق، بعد، المصالح الاستراتيجية للقوى المنخرطة فيها. وإلا كيف نفسر هذه المشاركة المتصاعدة للقوى الأوربية الكبرى إضافة للولايات المتحدة؟ وكيف نفسر الحماسة والجهود المبذولة لتأسيس القواعد العسكرية؟ وهذا اللعب الدولي الذي لا يتوقف، إلا ليعود من جديد؟
4-- ما من قضية، انعقد من أجلها مثل هذا العدد الكبير من الاجتماعات واللقاءات الدولية مثل القضية السورية، وما من اجتماعات ولقاءات كثيرة الكلام فقيرة النتائج مثلها. فهذه المشاريع والقرارات التي تدّعي العمل على وقف الحرب، إنما كانت تواكب وتخدم المسار العسكري من حيث هو المسار الحاكم للأمور. فإلى جانب القرارات عن وحدة سورية واستقلالها، أخذت تبرز، كمخرج للحرب وبديل للواقع القديم الذي لم يعد موجودا،مشاريع تقسيم على أسس طائفية أو عرقية هشّة.
أصحاب هذه المشاريع يستعيدون تجارب الماضي الفاشلة. فبعد الحرب العالمية الأولى جرى تقاسم بلاد الشام بين منتصري تلك الحرب الإنجليز والفرنسيين، واقتطعت من كل أطرافها أجزاء مختلفة لتأسيس كيانات تتوافق ومصالح هؤلاء المنتصرين، وتعيق أو تعطل نضال هذه البلاد من أجل الحرية والاستقلال والتقدم. بل إن سورية الحالية خضعت للتقسيم إلى عدد من الدويلات، لم تستطع أن تستمر، لأن شعب هذه البلاد لم يقبل بها. المشاريع الجديدة، وإن تغطت بما سمّي بالفدرالية، لا تتعارض مع دروس التاريخ وإرادة الشعب السوري صاحب هذه الأرض الوحيد وحسب، بل تساهم في خلق الشروط والظروف لنزاعات وصراعات جديدة ومديدة في سورية ولامتدادها إلى كيانات أخرى في المنطقة. وخير دليل على ذلك، الأوضاع التي تأسست في العراق الشقيق بعد الغزو الأمريكي له عام 2003 واحتلاله المستمر حتى الوقت الحاضر، وإن تحت تسمية مختلفة. فخلال ثلاث عشرة سنة مما .زعم بأنه تحرير له من الدكتاتورية، تبدد استقلاله وتقطعت أوصال البلاد وتمزقت وحدتها، ونهبت ولا تزال تنهب ثرواتها وتستعر فيها الصراعات الدموية الطائفية والإثنية. وبالإضافة للوجود العسكري والقواعد العسكرية الأمريكية، أصبح لإيران نفوذ طاغ على الحياة السياسية والاجتماعية، ولتركيا وجود عسكري رغما عن إرادة أهل البلاد.
5-- تهافت الأوضاع في المشرق العربي أتاح المجال لمنظمات إرهابية متعددة لتأسيس إماراتها. لقد تمكنت منظمة واحدة هي (داعش) من الاستيلاء على مساحات واسعة من العراق وسورية وتأسيس ما سمّي بدولة الخلافة الإسلامية. هذه المنظمات الإرهابية لم تنشأ بفعل الصدفة، بل أولا وأساسا بسبب ضعف الدولة الناجم عن نهجها الاستبدادي واستشراء الفساد فيها. ولم تتمكن هذه المنظمات في الأرض إلا بفعل الظروف والشروط التي وفرتها وتوفرها سياسات عدد من الدول خصوصا السياسة الأمريكية ومن يسير في ركبها من دول أوربية وإقليمية.
يتحدث زعماء الغرب عن عدم الاستقرار الذي سيستمر عقودا من السنين في الشرق الأوسط، ويتجاهلون ما قامت به دولهم من مؤامرات وحروب لتهديم هذا الاستقرار. يتحدثون عن مكافحة الإرهاب ويتجاهلون دور دولهم في تأسيس وتسليح وتمويل منظماته، التي وإن ارتدّت جزئيا عليهم، فإن العبء الثقيل لممارساتها، إنما يقع على شعوب هذه المنطقة. يتحدثون عن عجز بلدان هذه المنطقة عن حكم نفسها بنفسها، وأن ثقافتها تساعد على نشوء الإرهاب، ويتجاهلون نهبهم لثرواتها وخيراتها وحمايتهم للأنظمة التابعة لهم والمعادية لشعوبها ويعدّون، في الوقت نفسه، الأجواء لإعادة نوع من الانتداب أو الوصاية على الأقطار العربية وبلدان الشرق الأوسط الأخرى. لقد تعقّدت القضية القومية وارتبطت المسائل بعضها بالبعض بشكل غير مسبوق
6-- إن لم يتوفر للسوريين العزم والإرادة لإنقاذ بلدهم وأنفسهم، فمن الوهم والضلال انتظار الفرج من سياسات القوى الدولية والإقليمية. لقد كانت السنوات الماضية أكثر من كافية لمن يريد استخلاص العبر وتعلم الدروس.فلا حلّ للمسألة السورية وللمشاكل المرتبطة بها، إن لم يبحث السوريون عنه ويتداولوا بشأنه ويتفقوا عليه ويحققوه بأيديهم. لقد تغيرت البلاد بعمق وتغير الناس كثيرا، والسنوات المنصرمة علّمت بما يعادل عقودا من السنين. لقد مات القديم وإن لم يوار تحت التراب، لكن الجديد لما يولد.
البلاد أصبحت بحاجة لعقد اجتماعي آخر يتناسب ومهمة إزالة الخراب وإعادة البناء السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وهي مهمة ثقيلة تتطلب جهود السوريين جميعا. في سورية الجديدة، التي تلوح ملامحها من خلال نيران الحرب، لم يعد ممكنا استمرار الأوضاع القديمة، التي لم تعد تتوافق وإرادة الشعب وروح العصر. للتعبير عن هذه الإرادة وللوصول إلى حلول ناجعة للمشاكل الحادّة القائمة ولمواجهة المشاكل المعقدة التي تتطلب سنوات كثيرة لحلّها، لا بدّ من إيجاد الصيغة الصحيحة التي بمقدورها الحصول على التوافق الاجتماعي، أي على قبول ورضا الشعب.
لقد لجأ السوريون عام 1918، بعد أن استعادوا شيئا من إرادتهم وقدرتهم، إلى صيغة المؤتمر الوطنى، الذي أسس الدولة السورية الأولى، التي كانت ضحية الغزو الفرنسي عام1920 . والآن أيضا يمكن اللجوء إلى هذه الصيغة. المؤتمر الوطني عليه أن يمثل الجماعات المختلفة من أهل الفكر والثقافة والسياسة والعمل والصناعة والزراعة والتجارة والإدارة، أي باختصار السوريين جميعا بمعارضتهم وموالاتهم ومستقليهم، مؤتمر من هذا الطراز ينعقد في دمشق، أو في أي مكان يتفق عليه السوريون، ويحددون جدول أعماله وطريقة التوافق على موضوعاته وقراراته، مؤتمر على هذه الشاكلة يبحث أسس سورية المنوي بناءها بأيدي أبنائها، والعقد الاجتماعي الذي تقوم عليه الدولة وحقوق الإنسان والمواطن ومبادئ دستور الدولة وطريقة حكمها وواجباتها تجاه مواطنيها وواجباتهم تجاهها، مؤتمر من هذا النوع هو الصيغة المناسبة في الظروف الحالية للتعبير عن إرادة السوريين، والتي سوف تنال تأييد الأصدقاء الحقيقيين للشعب السوري، ولن يستطيع أعداؤه تجاهلها.
أواخر تشرين ثاني 2016